أثار قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بفرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية انتقادات دولية وحذر خبراء قانون دولى من تداعيات هذا القرار على عمل المحكمة والقضايا التي تنظرها معربين عن أسفهم لانحياز الولايات المتحدة إلى جانب حليفتها اسرائيل ودفاعها عن جرائم الإبادة الجماعية التى ارتكبتها فى قطاع غزة .
وأكد الخبراء أن قرار ترامب خطوة استفزازية تتعارض مع مبادئ العدالة الدولية وتضعف مصداقية النظام الدولي في تحقيق العدل والمساءلة مشيرا إلى أن القرار يأتي في إطار سياسة أمريكية تستهدف حماية مصالحها وحلفائها، دون مراعاة لمبادئ القانون الدولي أو حقوق الضحايا في مناطق الصراع
وقالوا : لا ينبغي لأي دولة أو زعيم سياسي أن يكون فوق القانون مؤكدا أن مثل هذه القرارات تضر بمبادئ العدالة التي يسعى المجتمع الدولي لترسيخها
وأوضح الخبراء أن اي محاولات لعرقلة إجراءات المحكمة أو الضغط عليها للتراجع عن ملاحقة مجرمي الحرب الإسرائيليين، تشكل تهديدًا خطيرًا لمبادئ العدالة الدولية وسيادة القانون، وتكريسًا لسياسة الكيل بمكيالين التي تطبق المعايير على الدول الضعيفة وتستثني منها الأقوياء.
كان ترامب قد وقّع أمرا تنفيذيا لفرض عقوبات على الجنائية الدولية، وأعلن “حالة الطوارئ الوطنية للتعامل مع التهديد الذي تمثله جهود المحكمة”، منتقدا إصدارها أوامر اعتقال لنتنياهو ووزير الدفاع السابق يوآف جالانت.
وزعم ترامب أن المحكمة انخرطت في أعمال غير مشروعة ولا أساس لها تستهدف الولايات المتحدة وحليفتها إسرائيل، وادّعت -من دون أساس- اختصاصها على أفراد من الولايات المتحدة وبعض حلفائها، بما في ذلك إسرائيل وفق تعبيره .
يشار إلى أن الجنائية الدولية كانت قد أصدرت في 21 نوفمبر 2024، مذكرتي اعتقال بحق نتنياهو وجالانت، بتهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية خلال حرب الإبادة التي ارتكبتها إسرائيل بحق الفلسطينيين بقطاع غزة على مدار 15 شهرا.
وهذه ليست المرة الأولى التي تفرض فيها الولايات المتحدة عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية، ففي عام 2020، خلال فترة رئاسة ترامب الأولى، فرضت واشنطن عقوبات على المدعية العامة آنذاك فاتو بنسودا وأحد كبار مساعديها، بسبب تحقيقات المحكمة في جرائم حرب ارتكبتها القوات الأمريكية في أفغانستان.
هجوم خطير
فى المقابل ندّدت توموكو أكانيه رئيسة المحكمة الجنائية الدولية بالعقوبات التي فرضها الرئيس الأمريكي على المحكمة مؤكدة أن هذه العقوبات تمثل “هجوما خطيرا” على النظام العالمي.
وقالت أكانيه في بيان لها إنّ مثل هذه العقوبات تمثل تهديدات وتدابير قسرية وتشكّل هجمات خطرة على الدول الأطراف في المحكمة، وعلى النظام العالمي القائم على سيادة القانون، وعلى الدفاع عن ملايين الضحايا .
سياسة الكيل بمكيالين
وأكد الدكتور محمد محمود مهران، عضو الجمعيتين الأمريكية والأوروبية للقانون الدولي، أن قرار ترامب بفرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية، ردًا على إصدارها أوامر اعتقال بحق مسؤولين إسرائيليين على رأسهم رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه جالانت بتهم ارتكاب جرائم حرب، يمثل تدخلاً سافرًا في استقلالية القضاء الدولي وتهديدًا غير مقبول لجهود تحقيق العدالة.
واعتبر مهران فى تصريحات صحفية أن هذه الخطوة الأمريكية تمثل انتهاكًا صارخًا لالتزامات الولايات المتحدة وفقًا لميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي العرفي، والتي تقضي بعدم التدخل في الإجراءات القانونية للمحاكم الدولية وعدم عرقلة التحقيقات الجنائية الدولية.
وأشار إلى أن نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، والذي صادقت عليه 123 دولة، يُجرّم في مادته الـ70 أفعال التهديد أو الترهيب أو الانتقام من المحكمة أو مسؤوليها أو الشهود بسبب أدائهم لمهامهم، ما يجعل أي محاولات لابتزاز المحكمة أو منع تعاون الدول معها، بمثابة جرائم تدخل ضمن اختصاص المحكمة ذاتها.
وأوضح مهران أن إصدار مذكرات توقيف دولية بحق قادة الاحتلال الإسرائيلي، يأتي في إطار ممارسة المحكمة لولايتها القضائية في الأراضي الفلسطينية المحتلة بعد انضمام دولة فلسطين للنظام الأساسي، ويعكس مدى خطورة الانتهاكات الجسيمة والممنهجة للقانون الدولي الإنساني وقانون حقوق الإنسان التي ترتكبها قوات الاحتلال بحق الفلسطينيين.
وشدد على أن اي محاولات لعرقلة إجراءات المحكمة أو الضغط عليها للتراجع عن ملاحقة مجرمي الحرب الإسرائيليين، إنما تشكل تهديدًا خطيرًا لمبادئ العدالة الدولية وسيادة القانون، وتكريسًا لسياسة الكيل بمكيالين التي تطبق المعايير على الدول الضعيفة وتستثني منها الأقوياء والمنتصرين.
ولفت مهران إلي أن إقدام الولايات المتحدة على هذه الخطوة، يقوض مصداقيتها ويفضح ازدواجية معاييرها، فهي من ناحية تدّعي الدفاع عن حقوق الإنسان والديمقراطية، ومن ناحية أخرى تحمي حلفاءها من المساءلة عن الجرائم الدولية البشعة، بما يغذي الشعور بالإحباط وانعدام الثقة بالعدالة الجنائية الدولية.
سيادة القانون
وقال إن الاتفاقيات والقرارات الدولية، ومن بينها اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات لعام 1969، تلزم الدول بتنفيذ المعاهدات بحسن نية وتحظر التذرع بالقانون الداخلي للتنصل من الالتزامات الدولية، فضلًا عن القرار 1593 الصادر عن مجلس الأمن عام 2005 والذي اكد علي اهمية تعاون الدول الكامل مع المحكمة الجنائية الدولية والامتناع عن أي أعمال تحول دون أدائها لمهامها.
وحذر مهران من أن تطبيق القرار الأمريكي عمليًّا، قد يشجع دولًا أخرى على حذو واشنطن في ابتزاز المحكمة الجنائية لحماية مسؤوليها من الملاحقة، وهو ما ينذر بتآكل مبدأ سيادة القانون وسقوط هيبة القضاء الدولي، وصولًا لانهيار النظام القانوني الدولي برمته والعودة للفوضى، مطالبا المجتمع الدولي بـالتصدي بحزم لأي محاولات تستهدف شل حركة المحكمة وإضعاف قدرتها على محاسبة كبار المجرمين مهما علت مكانتهم، وأن تظل ولايتها القضائية بمنأى عن أي تدخلات أو ضغوط سياسية أو مصلحية ضيقة.
وانتقد نهج واشنطن القائم على ازدواجية المعايير والانحياز الأعمى لإسرائيل حتى في مواجهة أبشع الجرائم الموثقة بحق الفلسطينيين، وسعيها الحثيث لتقويض آليات المحاسبة الدولية، وهو ما قد يقود لتصاعد ردود الفعل الغاضبة ضدها في العالمين العربي والإسلامي، وصولاً لزعزعة استقرار المنطقة بأسرها، وهو ما يتعين على صناع القرار في البيت الأبيض إعادة حساباتهم بشأنه.
وشدد مهران على التأكيد بأن التمسك بسيادة القانون ومبادئ حقوق الإنسان فوق كل اعتبار وهى السبيل الوحيد لبناء عالم أكثر عدلًا وإنسانية، مشيرًا إلى أن أي محاولات للتستر على الجرائم الخطيرة التي ارتكبتها إسرائيل بحق الفلسطينيين وحرمانهم من العدالة، ستفشل لا محاله وإن طال الزمن لأن الحقيقة والعدالة فوق إرادة الجميع، ولا يجب أن تخضع لتوازنات القوى.
أمريكا وإسرائيل
وقال الدكتور حسن جوني، أستاذ القانون الدولي، إن المحكمة الجنائية الدولية هي منظمة دولية مؤلفة من دول أعضاء مؤسسة وتكون تابعة للأمم المتحدة ككل المنظمات، ولكن ذات سيادة خاصة ومستقلة في قراراتها حسب قرارات أعضاء المحكمة.
وأضاف «جوني»، فى تصريحات صحفية ، أنه لم يحدث في التاريخ قيام دولة بفرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية مثلما فعلت أمريكا، مشيرًا إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل يرفضون قرارات المحكمة الجنائية الدولية لأنهم يعتبرون أنهم ليس أعضاء بها فقرارات هذه المحكمة غير ملزمة لهم بالرغم من توقيعهم على وجود هذه المحكمة لكن هناك فرق بين التوقيع والانضمام.
وتابع: هناك رفض أمريكي لقرارات المحكمة الجنائية الدولية لذلك فرضت أمريكا عقوبات على موظفيها، مؤكدًا أن أمريكا تهاجم من لا يتفق مع سياستها وأهدافها دون النظر للقوانين والأعراف الدولية.
خطوة استفزازية
وقال أستاذ العلوم السياسية الدكتور رضا فرحات، إن قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بفرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية يعد خطوة استفزازية تتعارض مع مبادئ العدالة الدولية وتضعف من مصداقية النظام الدولي في تحقيق العدل والمساءلة مشيرا إلى أن هذا القرار يأتي في إطار سياسة أمريكية متكررة تهدف إلى حماية مصالحها وحلفائها، دون مراعاة لمبادئ القانون الدولي أو حقوق الضحايا في مناطق الصراع.
وأوضح فرحات فى تصريحات صحفية أن المحكمة الجنائية الدولية، على الرغم من الانتقادات التي تواجهها، تظل أحد أهم الآليات الدولية لملاحقة مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية مشيرا إلى أن قرار ترامب بفرض عقوبات على المحكمة، خاصة بعد إصدارها أوامر اعتقال بحق رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه السابق يوآف جالانت، يظهر ازدواجية المعايير في التعامل مع القضايا الدولية، حيث يتم دعم الحلفاء سياسياً حتى لو كانت هناك أدلة على ارتكاب انتهاكات جسيمة.
وحذر من أن هذا القرار يحمل رسالة سلبية للعالم، مفادها أن الولايات المتحدة تضع مصالحها السياسية فوق مبادئ العدالة الدولية مؤكدا أن مثل هذه الخطوات تعزز من شكوك الدول الأخرى في نزاهة النظام الدولي، وتضعف من جهود تحقيق السلام والاستقرار في مناطق الصراع، خاصة في الشرق الأوسط.
وأشار فرحات إلي ضرورة أن تعيد الولايات المتحدة تقييم سياستها الخارجية فيما يتعلق بالعدالة الدولية، وأن تلتزم باحترام مؤسسات القانون الدولي، بدلا من استخدام العقوبات كأداة للضغط السياسي لافتا إلى أن استمرار مثل هذه السياسات لن يؤدي إلا إلى مزيد من التدهور في سمعة الولايات المتحدة على الساحة الدولية، وتقويض جهود تحقيق العدالة للضحايا في مختلف أنحاء العالم.
وأضاف أن فرض عقوبات على الأفراد الذين يساعدون المحكمة الجنائية الدولية هو خطوة غير مسبوقة تمثل ضغطا سياسيا غير مبرر على المجتمع الدولي متسائلا عن تأثير هذه الخطوة على مستقبل التحقيقات الدولية ومدى تأثيرها على الجرائم التي تحتاج إلى المساءلة العادلة .
وأوضح فرحات أن تعزيز العدالة الدولية يتطلب دعما دوليا قويا للمحكمة الجنائية الدولية، بعيدا عن التدخلات السياسية ومن الضروري أن تتكاتف الدول لإعادة بناء منظومة عدالة قوية، حيث لا ينبغي لأي دولة أو زعيم سياسي أن يكون فوق القانون و مثل هذه القرارات لن تخدم إلا مصالح آنية وتضر بمبادئ العدالة التي يسعى المجتمع الدولي لترسيخها.