أميرة أبو الفتوح تكتب: أيها اليسار السوداني.. لن يفيدكم اليوم البكاء على الأطلال

- ‎فيمقالات

ولا تزال الثورات المضادة تخوض حربها الشرسة بلا هوادة؛ ضد ثورات الشعوب العربية. فبعد أن وئدت الثورات في كل من سوريا وليبيا واليمن، زحفت إلى الشمال على تونس، مهد ثورات الربيع العربي، لتجعل مقبرة الربيع العربي في ذات البلد الذي شهد مولده، وليصبح نسيا منسيا. ثم واصلت زحفها للجنوب، إلى السودان، لتقضي على بقية الأمل في نفوس الشعوب العربية من جدوى ثوراتهم كي لا يعاودوا الخروج والثورة على حكامهم مرة أخرى!

ولكن هل يقع اللوم كله على الثورة المضادة التي تدار من أبو ظبي بمساعدة الموساد، أم إن لقادة الثورات العربية وممن يُسمون بالنخب نصيب من ذلك اللوم؛ والمساهمة حتى ولو بدون عمد في وأد ثورتهم؟

إنهم بلا أدنى شك مسؤولون أيضا عن ضياع ثوراتهم، بل تقع عليهم المسؤولية الأكبر، وأخص بالذكر اليوم آخر إخفاقات الثورات العربية في السودان، وما حدث فيها مؤخراً من انقلاب الجنرال "عبد الفتاح البرهان" على القوى المدنية التي تحالفت معه بعد ثورة الشعب السوداني في كانون الثاني/ يناير 2019، ضد "عمر حسن البشير" ونظامه الديكتاتوري المستبد الذي امتد ثلاثين عاماً.

لقد قادت الثورة آنذاك قوى "الحرية والتغيير"، وهي مكون سياسي تشكل من المهنيين وتحالف قوى الإجماع الوطني وتجمع الاتحاد المعارض، ولكن سيطر عليه الشيوعيون والجناح اليساري بصفة عامة، واختزلوا الثورة فيهم وتكلموا باسمها. فهم أصحاب حناجر رنانة وبضاعتهم التي يروجونها عفا عليها الزمن وأكل الدهر عليها وشرب، ولكنهم يكابرون ويعيشون في برج عاجي فوق الشعب الذي يجب أن يخضع لهم ويحكموه ولو بالقوة. ورأوا أن ذلك لن يحدث إلا بالتحالف مع الجيش؛ فركضوا إليه ليكونوا تحت مظلته لحمايتهم بدلاً من مظلة الشعب الذي يسفهونه ويحطون من قدره ويقللون من وعيه السياسي، ولا يريدون الاحتكام إليه في انتخابات حرة نزيهة؛ لأنهم يدركون حجمهم الطبيعي في الشارع السوداني، فلن يفوزوا عبر صناديق الانتخاب، وبالتالي لن يتحقق حلمهم بحكم السودان، لذلك توافقت رغبتهم مع رغبة المجلس العسكري الذي أيقن أيضا أن الشعب يرفض حكم العسكر، فأطاحوا بقائدهم الأعلى ورئيسهم لخمد هذه الثورة الشعبية التي كادت أن تطيح بهم جميعا.

كانت جماهير الثورة تطمح في اجتثاث جذور العسكر من تربة الحياة السياسية تماما ويطالبون بحكم مدني خالص، ولكن الشيوعيين عطلوا تلك المسيرة واستقووا بالجيش ورضوا بالدنيّة أمام العسكر، على أن يشاركوهم في الحكم، وبرروها لأنفسهم ولجماهير الثورة الغفيرة – الثورة التي ركبوا عليها وسرقوها من الجماهير – على أنها فترة انتقالية لاستقرار البلاد تعود بعدها الحياة الديمقراطية السليمة والحكم المدني الخالص.

ومن السخرية بمكان أنه حينما أعلن المجلس العسكري، الذي تظاهر جنرالاته وعلى رأسهم "عبد الفتاح البرهان" بأنهم من أنصار الثورة وحماة لها، أن مدة الفترة الانتقالية عام واحد، في محاولة منه لمغازلة الشعب وطمأنته. خشي هؤلاء القوم على أنفسهم، وطالبوا بمد الفترة الانتقالية لعامين، ثم عادوا وطالبوا بأن تزيد ولتكن أربعة أعوام، وكان لهم ما أرادوا!!

لقد اتخذ الشيوعيون الثورة سلماً للوصول إلى الحكم، وكان همهم الأول والأخير هو الانتقام من خصومهم السياسيين، وبالتحديد من حزب المؤتمر الشعبي الذي حكم البلاد بعد ثورة حسن الترابي عام 1989، والذي سلمها للعسكر أيضا (البشير وأعوانه من العسكريين)، فسجنوهم وصادروا أموالهم وطردوهم من وظائفهم، وأنشأوا لجانا سيئة السمعة أطلقوا عليها لجان "إزالة التمكين"، مهمتها عزل القيادات من مؤسسات الدولة والمرافق الحيوية الهامة التي عُينت في عهد البشير؛ لتمكين أنصارهم من مفاصل الدولة..

انشغل المكون المدني بتصفية حسابه مع خصومه الإسلاميين، وعمل قطيعة مع هوية الشعب السوداني المسلم، فغيّر المناهج الدراسية بما يلائم معتقداته وماركسيته، وحذف كل ما يمت للهوية الإسلامية بصلة، وضيّق الخناق على المساجد وأغلق دور "كتاتيب" حفظ القرآن ومراكز الإغاثة الإسلامية التي تساعد المسلمين المحتاجين في السودان وغيرها من الدول الإسلامية المنكوبة.. الخ.. الخ، وكأن هدف ثورتهم هو الانتقام من التيار الإسلامي، وقد امتد ذلك إلى الجهر بمعادة الإسلام ذاته، وليس التخلص من الحكم الديكتاتوري المستبد وإقامة حياة سياسية سليمة يتمتع فيها المواطن السوداني بالحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية، والتي خرجت جماهير الثورة من أجلها، وليس من أجل أن يستبدلوا مستبدا بآخر أكثر استبداداً وفاشية..

وبدلا من أن يحلوا أزمات الشعب الاقتصادية ويحاربوا الفساد، أدخلوه في أزمات اقتصادية جديدة، واستشري الفساد أكثر في العامين الماضيين اللذين شارك فيهما المجلس العسكري في الحكم..

استغل المجلس العسكري برئاسة البرهان هذه المراهقة السياسية وروح الانتقام الشرسة لدى القوى المدنية، وتركها تنكل بالإسلاميين وتضربهم في مقتل دون أي رفض أو اعتراض، لإضعاف المكون المدني كله في البلاد ويضيق الشعب ذرعا به، خاصة مع تصاعد الأزمة المعيشية التي لعب فيها العسكر دوراً خفياً من وراء الكواليس، ليخرج الناس إلى الشوارع في مظاهرات غاضبة ويكون الخلاص على يد الجيش والمخلص هو "عبد الفتاح البرهان"، في ذات الوقت الذي ثبت فيه أركان حكمه خلال العامين الماضين ووطد فيه علاقاته بدول المنطقة الداعمة لحكم العسكر، وأخذ بركاته من أبو ظبي والدعم الكامل من الكيان الصهيوني.

فقد ترددت أنباء عن زيارة وفد من كبار ضباط الجيش السوداني للكيان قبل الانقلاب بأسبوعين وأخذ الضوء الأخضر منه. ومما يؤكد هذا ما ذكره موقع "والا" العبري، أن إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن طلبت من تل أبيب استغلال علاقاتها المتميزة مع الجنرال البرهان لكي يعيد حمدوك ووزارته ويطلق سراح المعتقلين.. ولقد زار الخرطوم أيضا وفد من الموساد عقب الانقلاب، واجتمع مع نائب المجلس العسكري "حميدتي"!!

إنه لشيء مؤسف ومشين حقاً أن يكون جيش السودان، بلد اللاءات الثلاث (لا صلح، لا اعتراف، لا تفاوض) مع العدو الصهيوني، في قمة جامعة الدول العربية في الخرطوم عام 1967، هو الصديق والحليف والعقل المدبر لحكم العسكر!!

وجدير بالذكر أن جميع الحكومات الغربية أدانت الانقلاب العسكري إلا الكيان الصهيوني، لم يمش في ركابهم ما أعطى انطباعا بأن قادته يدعمون انقلاب البرهان..

وبينما الشيوعيون في غفلة وفي سكرة نشوتهم بالنصر المبين على الإسلاميين، ضربهم "البرهان" في مقتل وقام بانقلابه، وأعلن حالة الطوارئ في البلاد وحل مجلس السيادة واعتقل رئيس الوزراء وعددا كبير من الوزراء المحسوبين عليهم، وأطاح بنائبهم العام الذي نصّبوه لينتقم من خصومهم، وأفرج عن الرجل الأول في الحزب الحاكم سابقا إبراهيم الغندور، وحل لجنتهم الانتقامية المسماة "إزالة التمكين"، وهم الذين كانوا في غفلتهم أو لنقل في حماقتهم، يعتقدون أن في يدهم الوثيقة الدستورية التي تمنحهم الحق في إزاحة البرهان..

لقد وصف عبد الفتاح البرهان في أول تصريح له لوكالة "سبوتنيك" الروسية للأنباء؛ الإجراءات التي قامت بها القوات المسلحة السودانية والقرارات التي اتخذها بأنها بمثابة "تصحيح للمسار والعملية الانتقالية"، نافيا عنها صفة الانقلاب، وكذلك وصف نائبه "حميدتي" قرارات البرهان، بأنها تصحيح لمسار الثورة ووحدة الشعب بعد فشل كل محاولات الإصلاح، بسبب تمسك فئة قليلة بزمام الأمر وصراعها على السلطة وإهمال مطالب الشعب التي عبّر عنها في ثورته!

وهكذا دائما كل العسكر لا يرون الدبابة هي من أوصلتهم للحكم، ولكن جاءوا بها لإنقاذ البلاد والعباد. لقد ذكر البرهان لنفس الوكالة أن حكومة عبد الله حمدوك عجزت عن معالجة الأزمات في البلاد..

لقد قبل الجيش السوداني على مضض مشاركة المدنيين له في الحكم، لحين تفريغ الثورة من محتواها وخبو جذوتها التي كادت أن تحرقهم جميعا، فانحنوا للعاصفة حتى تمر ثم عادوا للاستيلاء على الحكم بمفردهم. فالعسكر كما يقول المثل المصري الدارج: "أنا زي الفريك ما حبش شريك"، فالعسكر أيضا لا يحبون شريكا لهم في الحكم، فهل كان الشيوعيون في غفلة عن ذلك، وهم أصحاب ثقافة وعلم يتباهون به ويتعالون على الشعب بها؟! أم أن الطمع والانتهازية والغباء والحقد على الإسلاميين قد أعماهم؟!

لقد كانوا نكبة على الشعب السوداني، وهم من أضاعوا ثورته العظيمة ولن يفيدهم الآن الخروج إلى الشارع. فقد انقسم إلى شوارع، أحدها رافض لهم وإن كان يرفض حكم العسكر أيضا، وآخر يؤيد البرهان في قراراته. لقد قضي الأمر وأحدثتم الفرقة والانقسام بين الشعب السوداني، ولن ينفعكم اليوم البكاء على الأطلال.

……….

نقلا عن "عربي 21"